قراءة موضوعية للإجراءات التي استهدف بعض المصارف

إعداد: المحامي / رامي زيدان | الجمهورية اللبنانية

ملخص:

يبحث الكاتب ضمن مقاله التداعيات التي ستصيب المجتمع اللبناني نتيجة للأحكام القضائية الصادرة عن القضاء اللبناني والتي تلزم المصارف بتسديد كامل رصيد حساب المودع لديهن بالعملة الأجنبية لناحية انعدام المساواة بين المودعين في استيفاء حقوقهم من المصارف كما لناحية الضرر اللاحق بالمجتمع واحتمالية نشوب تفرقة طبقية بين أفراد المجتمع إضافة لاحتمالية التسبب في إفلاس المصارف، فيبين نتيجة لذلك الكاتب ضرورة حماية مصلحة المجتمع على حماية بعض المصالح الشخصية ومحاولة التوفيق بينهما.

إن أخطر ما يجري على الصعيد القضائي في لبنان حالياً هو قيام القضاة بإصدار الأحكام بشكل قانوني ضاربين بعرض الحائط الآثار الناتجة عن تلك القرارات على صعيد المجتمع اللبناني.
إن لبنان يمر بأزمة اقتصادية، وهذه الأزمة انعكست على المصارف بحيث أصبحت تلك المصارف عاجزة عن تسديد قيمة ودائع الأفراد لديها، خصوصاً الودائع بالعملات الأجنبية. وهذه واقعة ثابتة في المجتمع والجميع على علمٍ يقين بها، دون استثناء.
إن المصارف، ونتيجة لسياساتها الاستثمارية الخاطئة، خصوصاً باستثماراتها في سندات الخزينة اللبنانية، سواء كان ذلك عن قناعة منها أو عن إكراه مورس بطريقة أو بأخرى عليها، أصبحت بعجزٍ بليغ أصاب ميزانيتها، بحيث أصبحت المطلوبات منها (ومن المطلوبات ودائع المودعين) أكثر من الموجودات فيها. ونتيجة لذلك أصبح من المستحيل تسديد كافة المطلوبات منها بواسطة موجوداتها، بل جل ما يمكن القيام به أن تدفع نسبة المطلوبات من الموجودات واعتبار الباقي من المطلوبات بحكم الزائل، وهو ما يعني فعلياً إعلان إفلاس المصرف، وهذا ما يسبب ضرر بليغ لكافة المودعين وللاقتصاد الوطني وللقطاع المصرفي[1]. الحل الثاني يبقى بالرهان على قدرة المصارف أن تستثمر موجوداتها لتحقق أرباح منها تغطي بها خسائرها أي عجزها ما بين المطلوبات والموجودات، وهو امر بلبنان ليس من المستحيل لكن من الصعب تحقيقه بشكل سريع وكافٍ، خصوصاً مع الضغط الذي يتعرض له القطاع المصرفي من قبل الرأي العام المناهض له بأغلبيته.
بعيداً عن الحلول المقترحة أعلاه، وبالعودة لصلب الموضوع، وفي الوقت الراهن حيث تترنح خلاله المصارف بين تفادي الإفلاس و محاولة الاستثمار بظل الاستحالة الناتجة عن المناخ السياسي والاقتصادي السائد، لجأ بعض المودعين المقتدرين إلى رفع دعاوى ضد المصارف لإلزامها بدفع كامل الوديعة نقداً، وذلك تطبيقاً للقانون. فقام القضاء اللبناني بالسير بتلك الدعاوى بشكل طبيعي وإصدار قرارات تلزم المصارف بتسديد كامل قيمة الوديعة نقداً للمودع، وذلك وفقاً لما يمليه القانون[2].
إلى هنا الأمور طبيعية من الناحية القانونية، فكل مودع له الحق بالاستحصال على كامل وديعته المصرفية عند أول طلب وفقاً للقانون[3]، وعند تمنع المصرف من تسديد قيمة الوديعة، يكون للمودع الحق باللجوء إلى القضاء طالباً الاستحصال على كامل وديعته وعند الاستحصال على الحكم القضائي القابل للتنفيذ وعدم تنفيذ المصرف القرار طوعاً، للمودع اللجوء إلى طرق التنفيذ الجبرية للأحكام[4]، التي بدورها تسمح للمودع بالحجز على كافة مملوك المصرف (موجوداته) وبيعها بالمزاد العلني حتى استيفاء كامل الدين مع كافة المصاريف القضائية المتوجبة. وكل ذلك طبيعي عندما يكون الوضع الاقتصادي عامة والمصرفي خاصة طبيعي.
لكن تكمن المشكلة حالياً بالوضع الشاذ اللاحق بالاقتصاد اللبناني عامة والقطاع المصرفي خاصةً، كما أوردنا أعلاه. وهذا الوضع سببه كما أسلفنا عدم كفاية الموجودات في المصارف لتسديد المطلوبات منها. واذا ما تم تطبيق القانون بشكل طبيعي كما أوردنا أعلاه، فإن ذلك سيسبب ضرراً بليغاً بباقي المودعين في المصرف المنفذ عليه.
بحيث انه، لنفترض أن على المصرف مطلوبات بخمسة مليارات دولار أميركي وموجوداته تقدر بمليار دولار أميركي، فتكون نسبة الموجودات تشكل ٢٠% من المطلوبات، وعليه فإن المصرف فعلياً يمكنه تسديد فقط ٢٠% من قيمة الوديعة لديه لكل المودعين، وعندئذٍ يصبح المصرف مفلساً فيقفل.
وتطبيقاً لما سبق، اذا قام مودع برفع دعوى بالوضع الراهن الاقتصادي والمصرفي، واستحصل على حكم قابل للتنفيذ بتسديد كامل وديعته، وقام بالتنفيذ الجبري على المصرف وتم نتيجة لذلك تسديد كامل قيمة وديعته من ما هو موجود من حالياً من موجودات المصرف يكون بالتالي قد تعرض لحق المودعين الآخرين في المصرف، بحيث أن المصرف اصبح ملزماً، تنفيذا للحكم القضائي، بالتعرض لما هو موجود فعلياً من ودائع باقي المودعين لتسديد كامل قيمة الوديعة للمودع المنفذ جبرياً. أي انه اذا كان هناك ٥ مودعين لكل منهم وديعة بعشرة آلاف دولار أميركي في المصرف فإنه يكون فعلياً، واستكمالاً للمثل المعطى أعلاه، لكل واحد منهم ٢٠% من اصل وديعته أي ألفا دولار أميركي، أي أن المصرف يملك من الخمسين الف دولار أميركي المفترض أن يملكها فعلياً كودائع لهؤلاء المودعين عشرة آلاف دولار أميركي، فإذا ما قرر احد هؤلاء المودعين مداعاة المصرف واستحصل على حكم قابل للتنفيذ ونفذه واعطي بالتالي كامل العشرة آلاف دولار أميركي يصبح باقي المودعين الأربعة يملكون فعلياً في المصرف صفر دولار.
فطبقاً للمثل المبسط المعطى أعلاه أن القضاء اللبناني يكون قد انتصر للمودع المدعي على حساب باقي المودعين الأربعة.
وهذا ما له تداعيات خطيرة على المستوى الاجتماعي، بحيث يصبح المقتدرين من الشعب اللبناني قادرين على استرجاع ودائعهم المصرفية على حساب باقي الأفراد المودعين لعدم تمكن هؤلاء من التقدم بدعوى قضائية لأسباب مثلا متعلقة بالتكلفة والمصاريف أو لأسباب أخرى، خصوصاً وان القانون اللبناني لا يسمح برفع الدعاوى الجماعية (class actions) كما القانون الأميركي[5] والذي في الحالة المذكورة أعلاه يمكن أن يخفف كثيراً على المودعين بجمعهم بدعوى واحدة بوجه المصرف، بدل أن يقوموا برفع دعاوى فردية كلٌ لوحده بوجه المصرف.
وان التفرقة بين المقتدرين القادرين على رفع الدعاوى واسترداد ودائعهم والغير المقتدرين الذين يرون ودائعهم تتبخر بكاملها أمام أعينهم بقوة القانون وهم غير قادرين على رفع الدعاوى، سيصيب المجتمع اللبناني بانقسام طبقي حاد هو بغنى عنه، وسيجعل القضاء اللبناني حامٍ للحريات والحقوق الفردية على حساب الحريات والحقوق المجتمعية أو العامة، مبدّئياً بالتالي المصلحة الفردية على المصلحة العامة.
كما أن ما تقدم يشذ عن المبدأ العام المعتمد من قبل الحكومة والمجلس النيابي من توزيع عادل للخسائر على الكافة، بحيث أن الخاسر الأكبر سيكون غير المقتدر على إقامة الدعاوى والمقتدر لن يكون من الخاسرين.
لذا لا بد أن يقوم الجسم القضائي باتخاذ الخطوات القانونية والقرارات التي تجنبه الوقوع في فخ التمييز بين المقتدرين وغير المقتدرين من المودعين فمن غير المقبول أن يستمر من يحكم باسم الشعب على التسبب بالضرر للشعب تطبيقاً اعمى للقانون كما لا بد من تفسير القوانين، التي وضعت لتنظيم العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع، بطريقة تحمي المجتمع، كما لا بد لوزارة العدل أن تتدخل أيضاً للمساهمة بمنع التعرض لمبدأ التوزيع العادل للخسائر التي التزمته الحكومة الحالية، وعلى أن يقوم مجلس النواب بالتشريع اللازم الذي يجنب القضاء الإحراج لناحية ما ذكرناه أعلاه والمحافظة بالتالي على كافة أفراد المجتمع وحقوقهم المالية وعدم السماح لبعض أفراد المجتمع بالهروب من التوزيع العادل للخسائر إضافة لتشريعات تساهم باسترداد المصارف لتوظيفاتها في سندات الخزينة الصادرة لمصلحة الحكومة، كما ضمان عدم التمييز بين ديون المودعين على المصارف وديون المصارف على الدولة. فلبنان بوضع اقتصادي ومصرفي دقيق يتطلب استثنائياً حماية المجتمع على حساب حماية الأفراد.

 

[1] مصير الودائع المصرفية من خطة Lazard إلى قانون إعادة التوازن للنظام المالي، الدكتور نصري دياب، العدل، 2023، عدد 1، ص 7 – 23

[2]  محكمة التمييز المدنية، الغرفة الثامنة، قرار رقم 4 تاريخ 24/1/2023، العدل، 2023، عدد 1، ص 120 – 123

منفرد مدني بيروت، قرار رقم 42 تاريخ 27/7/2021، العدل، 2022، عدد 4، ص 1393 – 1395

علي الموسوي، أول حكم قضائي من نوعه: إلزام مصرف بتسديد كامل الوديعة نقداً، مجلة المحكمة، عدد 3/5/2022

عجلة بيروت، قرار رقم 75 تاريخ 6/4/2022، منشور على موقع مجلة المحكمة عدد 23/4/2022

استئناف عجلة بيروت، قرار رقم 260 تاريخ 31/3/2022، منشور على موقع مجلة المحكمة عدد 23/4/2022

[3] مادة 307 من قانون التجارة البرية اللبناني

[4] المادة 827 وما يليها من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني

[5] Hensler, D. R. (2010). The future of mass litigation: Global class actions and third-party litigation funding. Geo. Wash. L. Rev.79, 306.

Emerson, J. S. (1989). Class actions. Victoria U. Wellington L. Rev.19, 183.

ElQarar https://www.elqarar.com

مجلة القرار® للبحوث العلمية المحكّمة
ElQarar® Journal for Refereed Scientific Research

قد يهمك أيضاً

المزيد من المؤلف:

لا يوجد تعليقات

أضف خاصتك